تعديل مدونة الأسرة بين تعزيز حقوق المرأة وحماية الاسرة

د. خليل الإدريسي
محامي وباحث أكاديمي
منذ خروج النص الحالي لمدونة الأسرة بصيغتها الأصلية سنة 2004 وأصوات بعض الحقوقيين والمهتمين،بشكل خاص في الحركة النسائية، تطالب من حين لآخر بضرورة مراجعة بعض مقتضيات هذه المدونة التي بقيت موضوع تحفظ منذ صدورها. هذا النص الذي شكل في وقته نقلة تشريعية مهمة في مجال الأحوال الشخصية بالمغرب، حيث حمل مجموعة من المكتسبات التي كانت تتصدر مطالب المنظمات النسائية وطالما ناضلت من أجل تحقيقها. ونذكر في هذا الصدد جعل مسؤولية الأسرة تحت رعاية الزوجين، ومنع تعدد الزوجات إلا بإذن القضاء، والإشراف القضائي على الطلاق، مع تمكين الزوجة من آلية التطليق، وولايتها على نفسها في الزواج …إلخ
يمكن اعتبار أن خطاب العرش لهذه السنة انطلاقة رسمية لورش جديد من أجل مراجعة بعض مقتضيات المدونة، ما دام أن هذا التعبير صدر عن أعلى سلطة سياسية بالدولة. فقد تناول الملك موضوع مدونة الأسرة واعتبر أنها أصبحت غير كافية من خلال واقع تطبيقها، كما أكد على أن التجربة أبانت أن هناك عدة عوائق تحول دون تحقيق أهدافها. وفي نفس السياق أتت الرسالة الملكية التي بعث بها الملك إلى رئيس الحكومة في مستهل شهر أكتوبر الرامية إلى تحديد المبادئ الأساسية التي يجب أن تؤطر عملية تأهيل المدونة، والتي أجملها في الاقتصار على إصلاح الاختلالات التي ظهرت خلال تطبيق مقتضياتها من طرف القضاء، وكذا تعديل تلك التي أصبحت متجاوزة بفعل تطور المجتمع والقوانين ذات الصلة. مذكرا بالمرجعيات والمبادئ التي انطلقت منها وهي العدل والمساواة والتضامن والانسجام، النابعة من الدين الإسلامي الحنيف، وكذا القيم الكونية المنبثقة من الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب.
تفاعلت جل المكونات مجتمعية مع هذه الإشارات الملكية وانخرطت في نقاش عمومي أعادنا إلى أجواء ما قبل صدور المدونة. وهنا نذكر أن الحديث عن تعديل المدونة كثيرا ما يصاحبه موضوع المطالبة بتعزيز مكانة المرأة وإعطاء أولوية لحقوقها اعتبارا لكونها تعد الطرف الضعيف في العلاقات الأسرية مقارنة مع الرجل. مع العلم أن الملك ذكر في خطاب العرش أن المدونة تقوم على التوازن، لأنها تعطي للمرأة حقوقها، وتعطي للرجل حقوقه، وتراعي مصلحة الأطفال، ردا منه على ما أسماه الفئة من الموظفين ورجال العدالة الذين يعتقدون أنها أي المدونة خاصة بالنساء فقط.
إن أهم المواضيع التي طفت على سطح النقاش الدائر حاليا بشأن تعديل بعض مقتضيات مدونة الأسرة، من خلال استقراء التصريحات والوثائق الصادرة عن بعض الهيئات النسائية الحقوقية والسياسية، يمكن حصرها في المطالب الآتية: منع زواج القاصرات، منع تعدد الزوجاتبشكل مطلق، إعطاء الولاية القانونية للمطلقة على أبناءها، والمساواة في الإرث. حيث تعتبر معظم هذه الهيئات أن المقتضيات ذات الصلة في المدونة تكتنفها نواقص كثيرة وتكرس تمييزا واضحا ضد النساء. فرغم أن الإصلاحات التي تمت في سنة 2017 بشأن تحديد السن في 18 سنة كحد أدنى للزواج مثلا، إلا أن المادة 20 أبقت على إمكانية السماح بتزويج القاصرات، وبالتالي دعت بعضهذه المنظمات إلى إلغاءه وعدم فتح الباب لأي استثناء في هذا الصدد، لأن السماح بتزويج فتاة قبل 18 سنة هو القبول بتزويج طفلة مما قد يؤدي إلى حرمانها من حقوقهاالأساسية في النمو السليم والكامل، واستكمال مسارها الدراسي، والمساواة مع باقي أقرانها من الأطفال. كما تدعو هذه المنظمات إلى ضرورة منع تعدد الزوجات بشكل مطلق، وكذا منح الولاية القانونية للأم والأب على السواء وعدم حصرها في هذا الأخير فقط. وبالمقابل نجد أن هناك أصوات نسائية وفعاليات سياسية محافظة لا تساير هذه المطالب وإن كانت تنادي هي أيضا بتعزيز وضعية المرأة في الأسرة وتمكينها من نفس حقوق الرجل مع مراعاة البعد الشرعي في المسالة.
في اعتقادي إن مقاربة موضوع إصلاح مدونة الأسرةكإطار تشريعي ينظم النواة الأساسية داخل المجتمع يجب أن يعتمد كغاية أسمى حماية هذه النواة أي الأسرة من بعض الأعطاب التي أصبحت في العقود الأخيرة تعصف بتوازنها بل بوجودها، وأبرزها: ظاهرة العنف الأسري،وظاهرة التفكك الأسري، والزيادة المتصاعدة لحالات التطليق، النزوع إلى العزوبية والعزوف عن الزواج. ولتطويق هذه الظواهر يجب أن نقر بأنه إلى جانب النواقص التي يعاني منها النص التشريعي هناك أسباب أخرى لا تقل أهمية عنه. فغياب وسائل التأهيل للزواج وتوفير الشروط الأساسية لضمان نجاحه، إلى جانب التطبيق السلبي لمقتضيات مواد المدونة من طرف القضاء سواء كان مرد ذلك للشروط الموضوعية الخارجة عن إرادة القضاة أو الشروط الذاتية المرتبطة بتكوينهم ومدى إدراكهم لروح النصوص التي بين أيديهم والمقاصد المرجو تحقيقها، وضعف نظام الحماية الاجتماعية والاقتصادية داخل المجتمع، كلها عوامل تؤثر بشكل كبير على استقرار الأسرة وتوازنها.
فبالنسبة لتأهيل المقبلين على الزواج نجد أن هناك فراغا تاما فيما يتعلق بالاهتمام بهذا الموضوع من الناحية التشريعية، وأن إجراءات ما قبل الزواج تقتصر فقط على توفير الملف الإداري الذي يشتمل على الوثائق الشخصية والإدارية والحصول على شهادة طبية تثبت الخلو من الأمراض المعدية، دون وجود أي إشارة إجراءات تمكن من معرفة مدى تأهل واستعداد المعنيين بالأمرللزواج، والغريب أنه حتى بالنسبة للمستوى المادي فهناك غياب لاشتراط الإدلاء بأي وثيقة تتعلق بإثبات أن الزوج له دخل كافي يمكنه من إنشاء أسرة، مع العلم أن هذا من الضرورات الأساسية، وهو ما يعرف في الشريعة بالباءةالتي تعني القدرة المادية والجسدية. حيث كان حريا بالمدونة أن تنص على إجراءات تدخل في باب توجيه الخطيبين وتأهيلهما للزواج من خلال تعريفهما بحقوقهما تجاهبعضهما ومدى مسؤولية إنشاء أسرة وتبعاتها كحقوق الأطفال مثلا، وتمكينهما من بعض النصائح والإرشادات لتفادي الوقوع في الشقاق والخلاف. علما أن هذه الآلية ستكون مناسبة للوقوف على مدى استعداد الطرفين نفسيا وتربويا واجتماعيا واقتصاديا للارتباط عن طريق الزواج.وكذا مناقشة الظروف التي تحيط بالخطيبين، والتي قد تكون من بينها حالات تدخل في زواج حديثي السن، أو حالة تعدد الزوجات. وكل ذلك يجب أن يضطلع به أخصائيون يوظفون لهذه الغاية. وهنا أعود لموضوع زواج القاصرات، حيث أرى أنه رغم ضرورة إقرار سن الرشد كشرط للزواج دون فتح الباب أمام أي استثناء، فإن المشاكل التي يمكن أن تتعرض لها الفتيات حديثات السن سيبقى قائما، لأن المعالجة يجب أن تتولى تفاصيل الحالات وليس الاكتفاء بالمبدأ، فهناك الحالة التي لا يكون فيها تناسب على مستوى السن ووجود فرق كبير بين الزوجة والزوج، أو في الحالة التي تكون فيه الزوجة مكرهة على القبول بالزواج، أو يكون الزوجان معا صغيرا السن لا يدركان أعباء الزواج والأسرة، أو في الحالة التي تكون فيها أسرة إحدى الطرفين تعارض زواجهما، وما إلى ذلك من معيقات أولية تكون معها إجراءات التأهيل والمصاحبة ضرورية قبل الزواج لتفادي معضلات ما بعد الزواج.
أما موضوع تعدد الزوجات فإن الخلاف القائم بشأنه بين التيار التقدمي والتيار المحافظ لا يجب أن يحشرنا فيزاويتين ضيقتين بعيدا عن الواقع وثقافة المجتمع، لأن هناك عنصرا أساسيا يجب أن لا نغيبه هو الرأي العاموتعاطيه مع الموضوع، حيث ينظر عامة الناس إلى التعدد، ومع الأسف، بأنه حق شرعي للرجل في الزواج بأكثر من زوجة وأن المسالة ترتبط بإشباع القدرة الجنسية ليس إلا، في الحين أن السياق القرآني الذي ذكر تعدد الزوجات أتى في إطار وضعية اجتماعية وإنسانية معينة، وضمن واقع كان سائدا عند العرب قبل الإسلام، وهو مسألة كفالة البنات الأيتام والطمع في مالهن والطريقة المهينة التي كان يتعامل بها الرجال مع النساء في المجتمع الجاهلي. هذا وقد وضع القرآن الكريم شرط العدل كأساس لأي علاقة بين المرأة والرجل، ثم بعدها جزم بأن العدل بين الزوجات غير ممكن على الإطلاق، ثم أوصى الرجال لتفادي السقوط في ظلم النساء الاكتفاء بزوجة واحدة. هذا بالإضافة إلى أن الآيات قرنت النفس الانسانية بزوجها وليس بأزواج متعددة، وذكر الزوجة بلفظ الصاحبة، فلا يجب تغييب هذه النصوص ومحاولة تجريد الأحكام القرآنية عن بعضها، إذ علينا تصحيح مجموعة من المفاهيم والفهوم الخاطئة السائدة بين الناس وحتى عند بعض المثقفين مع الأسف.
أما ما يتعلق بالولاية القانونية للأب على الأبناء وما أسفرت عنه بعض حالات الطلاق من تعسف الآباء في هذا الصدد، وهو ما أدى إلى المناداة بجعل هذه الولاية مشتركة بين الأم والأب، فإن هذا الأمر يثير سؤالا أساسياحول حلول الولي القانوني محل القاصر في المسؤولية المدنية عما قد يتسبب فيه هذا الأخير من أضرار للغير. فهل ستكون هذه المسؤولية مشتركة بين الوالدين في حالة الاشتراك في الولاية؟، وهذا من شأنه تحميل الأم التبعات المادية لابنها مناصفة مع الأب. لذا وجب التفكير في إيجاد صيغة أكثر فعالية لتجنب تعسف الأب وضمان مصلحة الأطفال واحترام حقوق الأمهات. ونفس الشيء بالنسبة للحضانة التي تحق للأم في حال الطلاق لكن يمكن أن تجرد منها بطلب من الأب في حالة زواجها، ووجوب إقرار نفس الحق لها في حالة زواجه. لكن يجب أن نبقي في جميع الأحوال سلطة تشخيص المصلحة الفضلى للطفل بيد القضاء.
وإلى جانب ثغرات النص التشريعي، فإن هناك مشاكل على مستوى التطبيق القضائي، كتعطيل المقصد الحقيقي من مسطرة الصلح التي أصبحت مجرد شكلية بدون أي فاعلية، وأداء رسوم التقاضي، وطول مساطر دعاوى النفقة والتطليق، وهزالة بعض المبالغ المحكوم بها، وصعوبة تبليغ وتنفيذ الأحكام. هذه الإشكالات التي تدعونا إلى التفكير بعمق في إيجاد آليات أكثر نجاعة وفعالية لجعل التقاضي وسيلة للإنصاف والتمكين من الحقوق وليس وسيلة لتعميق وتفاقم المشاكل الأسرية.
إن الرافعة الحقيقية لمراجعة أي نص تشريعي تكمن في الدراسات الأكاديمية والأبحاث الميدانية التي من شأنها أن تساعدنا على الوقوف على المعطيات الواقعية من خلال استقراء الإحصائيات واعتماد أدوات البحث العلمي من أجل الوصول إلى تشخيص حقيقي وموضوعي للمشكلات التي تعاني منها الأسرة المغربية وكل مكوناتها، حتى نستطيع أن نجد حلولا عملية وناجعة بعيدا عن أي مزايدات مطلبية نابعة من خلفيات بعيدة عن الواقع المعيش والتي قد تؤدي إلى تفاقمه، سواء أتتنا باسم الدين أو باسم الحداثة٠